Egypt's Cultural Identity and Its Humanitarian Mission in the 21st Century

Document Type : Original Article

Author

Faculty of Women for Arts, Science, and Education—Ain Shams University

Abstract

This study integrates methodological approaches, including General System Theory, which seeks to systematically unify the natural and human sciences and was founded by Ludwig von Bertalanffy (1901–1972). It also incorporates Complexity Theory, originating from advancements in computer science but influencing the humanities as well. The research employs the Anthropology of Consciousness and its multiple approaches in addressing identity, considering "consciousness" as a key element in anthropological studies. The study connects the Anthropology of Consciousness with analytical psychology, particularly the concepts of the collective unconscious and archetypes, linking this analysis to the notion of worldview. This concept transcends ideologies and connects the unconscious and conscious realms in daily and folkloric practices that embody the authenticity of character and intersect with identity awareness.
This article elucidates the overlapping terminologies that may lead to conceptual confusion between national identity and cultural identity, highlighting why Egypt's cultural identity holds universal humanitarian value. It addresses the imminent risk posed by losing connection with Egypt's cultural character, which threatens societal cohesion. Concurrently, the article emphasizes the role of the collective historical unconscious in revitalizing this character harmoniously with contemporary times, avoiding rigid replication of the past.

Keywords


مقدمة

طرأت تغيرات على العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، حيث خُلِقَت مجتمعات افتراضية نتيجة للثورة المعلوماتية وتقدم وسائل التواصل داخل الواقع الافتراضي Virtual reality؛ مما جعل تعريف المجتمع والهوية يتوارى أمام تلك التغيرات الراديكالية. لم يعد المجتمع بحدوده الجغرافية هو الإطار الذي يتم فيه التفاعل، وإنما أخذ الفضاء الافتراضي مساحة واسعة في تشكيل الهوية والانتماء، مما خلق جزرًا منعزلة بعضها عن البعض داخل الوطن الواحد.

وفي عصر ما بعد الحداثة، سادت نسبية مطلقة في المبادئ العليا والأخلاقية، أي اهتزت الأرض التي يمكن أن يجد فيها الإنسان إنسانيته، كلٌ يخلق قيمة النفعية على حساب الآخرين، ويجب أن نفرِّق هنا بين احترام الخصوصيات الثقافية والتنوع في الممارسات الاجتماعية، وهو التدريب الأساس الذي يتدرب عليه الأنثروبولوجي عند قيامه بالملاحظة بالمشاركة، وبين الانهيار الكامل لمبادئ يقوم عليها التفاعل الإنساني من أجل استقرار المجتمع واستمراريته، بل ومن أجل المعاملات الدولية والمعاهدات التي اُتُّفِق عليها منذ نشأة الأمم المتحدة، وانهارت فاعليات هذه المعاهدات، وليس أدل على ذلك مما يحدث من انتهاك لكل المعاهدات الدولية في حقوق الإنسان في قطاع غزة ولبنان.

لا تعتبر الخلخلة القيمية وازدواجية المعايير أمرًا جديدًا في العلاقة الدولية، وإنما أصبحت الجرائم الإنسانية مثل إبادة شعب تجري تحت بصر العالم، دون أن يحرك ساكنًا، والتفكك الأخلاقي، بل العنصرية داخل البلاد التي وضعت نفسها على قمة التقدم ظهرت دون خجل أو مواربة سواء في سياستها الداخلية، أو في علاقاتها الخارجية. تقوم هذه العنصرية على هوية زائفة خلقتها الصهيونية اليهودية والمسيحية، برزت من خلالها جرائمها التي تخرجها عن كل مبادئ إنسانية.

وما يحدث من تغييب حضاري اليوم لهوية المصريين، يتطلب جهدًا في دراسات ذات جوانب معرفية وتطبيقية، كي تتمكن مصر من استعادة دورها الحضاري، من خلال الارتباط بنهر الحضارة المتدفق من أقدم العصور، والذي ما زلنا نحمله في الأعماق، وقد نفقده عندما نتجاهله، وعندما نستسلم للعوامل الخارجية المتعددة التي تعيق التفاتنا إلى ما يجمعنا – نحن المصريين – من شخصية حضارية، تخبو أحيانًا، وتستيقظ أحياناً أخرى. وترتبط الهوية بالصورة التي نرى بها أنفسنا "من نحن"، ويؤثر اختفاء هذه الصورة على كل الجوانب الرئيسة التي تضمن لهذا البلد التقدم والنماء. ويتطلب مواجهة هذا التهديد دراسات بينية Interdisciplinary studies لتساعد صاحب القرار على توفير العوامل الداعمة كي يرتبط الإنسان بأصوله الحضارية، ويستثمر قدراته في البناء من أجل نهضة هذا البلد، واستعادة رسالته الإنسانية.

بعض المصطلحات المتداخلة

الهويـة في التعريف اللغوي في المعجم العربي وأيضا في القواميس اللغوية الأجنبية Identity، تشير إلى صفات الإنسان الجوهرية، التي تميزه عن غيره والهوية الوطنية تشير إلى المعالم والخصائص لشعب من الشعوب، والهوية بالنسبة للفرد هو إحساسه بنفسه وتفرده وحفاظه على تكامله وقيمته وسلوكياته وأفكاره في مختلف المواقف. (قاموس المعاني موقع إلكتروني)

وفي التعريف الجامع، فإن الهوية هي الصفات الخاصة والمعتقدات وسمات الشخصية، وما ينتج عن هذا من تعبيرات يتم بها تعريف الفرد أو الجماعة. وتشمل كذلك رؤية الإنسان أو الجماعة لذاتها، وكيف يرى الفرد أو الجماعة "الآخر". وفي علم النفس، فإن الهوية تشمل الذاكرة والخبرات والعلاقات والقيم التي تخلق الإحساس بالذات.

وامتزج مفهوم الهوية مع الشخصية الثقافية في الآداب الأنثروبولوجية، ويرجع إلى روث بندكت (1946/2005) إدخال مفهوم "أنماط الثقافة" Patterns of culture، وكان هذا بداية لجهد مستمر لامتزاج علم النفس مع الأنثروبولوجيا في دراسات الثقافة والشخصية، انطلاقا من فهم ثقافة اليابانيين وتأثيرها في شخصيتهم، وهي تختلف عن الثقافة الأمريكية، جملة وتفصيلاً. ومن هنا ارتبطت الهوية بالشخصية، من حيث إن الشخصية سمات متغيرة من ثقافة إلى أخرى، بينما الهوية مفهوم علمي يؤكد انتماء الأفراد إلى مجتمع، أو حضارة، أو دين، أو عرق، وبناء صورة عن الذات من خلال هذا الانتماء. وعندما يتم بناء هذه الصورة من خلال الانتماء إلى عرق ما، أي قوم يشعرون بالتميز نتيجة لأصولهم الإثنية، يصبح مفهوم الشخصية القومية National Character له جانبين، أحدهما يرجع إلى التميز العرقي والآخر يرتبط بالبناء التاريخ الذي أفرز خصائص وسمات لهؤلاء الذين اشتركوا في تاريخ واحد.

وقد يختلط مفهوم الهوية الثقافية Cultural identity، مع مفهوم الشخصية القومية National identity، نجد أن الهوية الثقافية والشخصية الثقافية مترادفان، حيث إن كلاهما يشير إلى علاقة بين الثقافة وبين بناء الشخصية جمعيًا، ونجد أن الشخصية القومية والهوية القومية مترادفان أيضا، لعلاقة الوعي بالذات من خلال الانتساب إلى قوم لهم خصائص مشتركة نتيجة لاشتراكهم في عرق واحد أو تاريخ واحد على بقعة جغرافية مشتركة، وترسخ عندهم الانتماء إلى هذا العرق، وتكونت لديهم صورة مشتركة عن الذات جماعياً نتيجة لهذا الانتماء.

ينتج عن تعريف الهوية من خلال الانتماء العرقي تميز قد يفرز اتجاهًا عنصريًا، ويخلق صراعًا مع القوميات الأخرى بالضرورة. ومثال لهذا نشأة العنصرية الألمانـية المرتبطة بالتميز العرقي، إذ تبين أن هذه العنصرية مرتبطة برؤية عن الذات تعلي من قيمة الانتساب إلى العنصر الآري، وتراه أفضل من غيره. وتطورت العنصرية الألمانية بعد التفكك الذي عاشته ألمانيا في قرون سبقت نشأة الرايخ، وظهرت الحاجة إلى إعادة تعرف الشعب على هويته، التي تحددت على أساس اللغة التي يتحدثها والدين الذي يعتنقه، والأرض التي يسكنها. كانت لأفكار فيلهلم فونت تأثير خاص على تشكيل الهوية التي عبر عنها في مصطلح "الروح القومية"، مما مهد لتشكيل رؤية للذات تحمل طابعًا قوميًا متطرفًا، زادت حدتها على خلفية الصراع في الحرب العالمية الأولى، وظهرت نظريات تتناول علم النفس العرقي ساهمت في خلق فضاء رمزي يتم فيه رفع مفهوم العرق إلى قيمة مطلقة. (Varshizky, Amit, 2019)

التناول لهذه النوع من الهوية التي يتخللها عنصرية، أمر مشترك بين جماعات مختلفة، ولهذا علينا أن نستبعد هذا النوع من "الهوية". عندما نتحدث عن "الهوية المصرية" فهي لا تتمحور على مجرد لغة وأرض وعرق، وإنما تشير إلى قيم معنوية خلقتها الحضارة المصرية القديمة، واستمرت في نسيج الشعب، وهي قيم إنسانية في المقام الأول، ولهذا ارتبطت بسمات إنسانية يكون التعبير عنها بمصطلح" الشخصية الثقافية أو الحضارية تعبيرًا أفضل Cultural Personality.

ولا يهتم هذا المقال بنظريات الشخصية كما تناولها علم النفس العام، وإنما نكتفي فقط بعلم النفس الاجتماعي، حيث يلعب التفاعل الرمزي دورًا هاماً في بناء الشخصية، هذا التفاعل يتم بين تكوين نفسي متفرد يعبر عن الذات، ويشار إليه بلفظ "أنا" I وبين إطار مرجعي Frame of reference يعبر عن القيم والمبادئ التي يتم على أساسها التوقعات الإنسانية، ويعبر عنه بلفظ Me أي الجانب الذي ينتمي إلى شخصية الفرد في إطار ما تعارف عليه المجتمع، ومن خلال هذا التفاعل يتم التكوين المبدئي في الصورة التي يكونها الفرد عن ذاته Self-image. (Manis, Jerome G. And Bernard N. Meltzer, 1978)

لتفاعل يشير إلى ترجمة ذاتية يقوم بها الإنسان من خلال ترجمته لانطباعات الآخرين حوله، وهذه الترجمة تختلف من شخص إلى آخر، والمهم هنا أن نلاحظ أن الإنسان لا يتفاعل سلبيا مع المجتمع الذي ينشأ فيه، وإنما ينشأ الوعي بالذات من خلال التفاعل الاجتماعي، ويتكون الوعي بالذات بطريقة خاصة مع كل فرد تبعا لترجمة الرموز التي تنشأ من الثقافة، والتي يتغير معناها وعمقها تباعا. ومع ذلك، فهناك إطار مرجعي أخلاقي واجتماعي يجمع كل من ينتسب إلى ثقافة ما، وهذا أحد جوانب الشخصية الثقافية.

وهناك فرق بين شخصية مصر والشخصية المصرية، تناول جمال حمدان (1981- 1984) شخصية مصر من زاوية جغرافية، ومن هنا كانت مصر بتكوينها الفريد لها شخصيتها التي تميزت بها والتي جمعت المتناقضات، فهي من ناحية بلد النهر والزراعة، حيث يجري النيل شريان حياة لأهلها، ومن ناحية أخرى، فإن صحراءها نموذج مصغر للصحراء الكبرى. ويرى حمدان أن مصر تطبيق عملي لفلسفة هيجل الفيلسوف الألماني ومنهجه الديالكتيكي، إذ إن اجتماع النهر يجري في الصحراء أعطاها شخصيتها. واعتمدت مصر على الزراعة من خلال الري، وهو ما خلق تنظيمًا لعب فيه الإنسان الدور الرئيس. ويبين حمدان أثر الموقع الجغرافي على شخصيتها؛ حيث تقع مصر في قلب العالم القديم بين ثلاث قارات، أفريقيا وآسيا وأوروبا من خلال البحر الأبيض المتوسط، تجمع بين البحر الأبيض شمالا، والبحر الأحمر شرقا، "وكأنما كل أصابع الطبيعة تشير إلى مصر". عزلتها الطبيعة عن بلاد الجوار، وكانت حامية لها، فكانت مصر أول دولة في التاريخ، ذات حكم مركزي، وبيروقراطية عريقة.

وعندما ننظر إلى نشأة الحضارة من زاوية أخرى، ندرك أن النظام الإداري المركزي والتكيف مع البيئة لم يكونا وحدهما المسؤولان عن ميلاد الشخصية الحضارية المصرية، وإنما تدخلت عوامل متشابكة ومركبة، حيث تعانقت الأسئلة الوجودية مع ممارسة المصري لحياته اليومية في بوتقة واحدة أنتجت رؤية للعالم، كما أنتجت حياة اجتماعية متقدمة، ومبادئ أخلاقية نابعة من محاسبة النفس، وهكذا تم ميلاد فريد للشخصية المصرية Egyptian Personality.

ولا تعيد الشخصية المصرية إنتاج نفسها آليا، ولكنها تتجدد باستمرار في التعبير عن نفسها من خلال وسائل متعددة. الشخصية بتعبير آخر هي وعي بالذات ممتد عبر التاريخ، ويتجلى هذا الوعي في المنتج الفني والتعبير الرمزي والفلكلور الشعبي ورؤية العالم، ويتجدد من خلال التغير المستمر في نهر التاريخ، دون أن يفقد سماته الرئيسية. وفي كثير من الأحيان نتحدث عن التغير في الشخصية الثقافية أو القومية، دون أن نلتفت إلى أن التغير هو في التعبير عن الذات، أو تغير في أنماط السلوك، وتظل هناك أمور تتجاوز هذه المتغيرات، مدفونة أو مخزونة في اللاوعي الجمعي. أما إذا افترضنا أن هذه السمات الرئيسية قد تفككت واندثرت، يعني هذا أن البلاد قد انهارت أيضا مع انهيار هذه الشخصية، أو الهوية. وهذا ما ينبغي أن ندرسه ونرى أين نحن؟ هل نحن في نمو وامتداد، أم أننا في عدٍ تنازلي نحو الانهيار الكامل.

قيمة مصر الحضارية

مصر لها مكانة خاصة في التاريخ الإنساني، فهي مهد الحضارة، ولو لم تكن حضارة مصر بدأت في هذه الأرض لكان لزامًا أن تبدأ في مكان آخر ليأخذ التاريخ المجرى الذي أخذه، فهي بداية تاريخ وأصل للتأريخ بما تركته من تسجيل وتوثيق يعبر عن الذاكرة الإنسانية. (حزين 1995؛ رافع 1995؛ فؤاد، 1998؛ سعيد 1977؛ برستيد 2012)

أثرت الحضارة المصرية على الحضارات المتعاقبة، إذ أخذت الحضارة اليونانية الكثير من العلوم المصرية. وكانت القيم المصرية الأخلاقية بشيرًا للرسالات السماوية المتتالية، واستقبلت مصر المسيحية ثم الإسلام دون مقاومة، وامتزج القلب المصري بما جاء به الرسل، ويمكن القول إن ما توصل إليه المصري القديم في إيمانه بالأصل الواحد للوجود، وتجليه في الموجودات كلها، جعله مستقبلًا للرسالات السماوية بقلب مفتوح، تعبيرًا عما كان يحمله في قلبه من إيمان على مستوى اللاوعي. (سعيد 1977؛ فؤاد 1998؛ برستيد 2012)

كانت الحضارة المصرية نقلة نوعية في الوعي الإنساني، وقد عبر هنري برستيد عن هذه النقلة، عندما قسم تاريخ الإنسانية إلى عصرين بارزين، العصر الأول هو كفاح الإنسان مع الطبيعة من أجل البقاء، والعصر الثاني هو عصر اكتشاف القيم الأخلاقية التي كانت أساسًا لنشأة الحضارة، وهي ثورة إنسانية، وقد عرّف حامد سعيد الثورة (1977:12) "أنها إعادة خلق الذات وهي طموح الإنسان لتحقيق طبيعته الإنسانية الغنية الرائعة،... يثور ضد حدوده في سبيل أن ينمو" وهذا ما فعله المصري القديم، حيث تطلع إلى معرفة الكون في الوقت الذي كان يتطلع فيه إلى معرفة مكانه في هذا الوجود. كانت هذه النقلة النوعية في الوعي قناة للتقدم الإنساني، حيث كان الضمير أعظم ثورة إنسانية في التاريخ (هنري برستيد 1933)، ليست الحضارة المصرية إذن تاريخًا ندرسه في المحافل العلمية بوصفه ماضي نفخر به، ولكنه قيمة إنسانية ما زلت البشرية في حاجة إليها.

لم تقدم مصر القيم الأخلاقية بوصفها حقائق يواجهها الإنسان، ويخضع لها كما قدمها دوركايم (1964)، وإنما اكتشف المصري القديم أسلوب التأمل العميق Introspection والقدرة على الاختلاء مع النفس وإجراء حوار معها، وقد تعرضت باربرا هانا لهذا الجانب الهام من الممارسة الذاتية، وعرضت تحليليًا كيف استطاع أحد المصريين أن يدخل في حوارِ عميق مع نفسه، ويتحدث مع الجانب الروحي فيه "با Ba "، وذلك في أسطورة معروفة في بردية تعود إلى الأسرة الثانية عشر (Hannah,1981) ومن هنا ندرك أن هذا الحوار الداخلي العميق، كان الوسيلة لإيقاظ الضمير ومحاسبة النفس.

كان اكتشاف الضمير ميلادًا لوعيٍ جديد، نابعًا من رؤية للعالم حيث آمن المصريون القدماء بالقانون الكوني الضابط لكل شيء في الكون، والضابط أيضا لما يقوم به الإنسان في حياته اليومية. كانت ماعت Maat هي الرمز الذي يشير إلى هذا النظام الشامل في هذا العالم، وفي العالم الآخر، ويقول د. الدماطي، إنه لا توجد ترجمة لهذا الرمز لأن ماعت أكثر من مجرد نظام وحق وعدل، وقد بدأ استخدام هذا الرمز منذ فجر التاريخ (الدماطي 2018)، ومن خلال ملاحظتهم لدورة الحياة وتجددها في تعاقب الليل والنهار، وقانون الإنبات والزراعة، أدرك المصري القديم أن الحياة مستمرة لا تنتهي بظاهرة الموت.

كانت نشأة هذه الحضارة نموذجًا تحليليًا لنظرية التعقيد Complexity Theory، بتعبير آخر لم تكن هناك مقدمات واضحة وعلاقات سببية منظورة، لنستخرج نتيجةً تقول إن الاستقرار وحده والتكيف مع البيئة الطبيعية أو الموقع الجغرافي، أو وجود النيل شريانًا للحياة أو أي عامل آخر، أو كل هذه العوامل مجتمعة، هي أسباب مسؤولة بصورة مباشرة عن نشأة الحضارة، بالكيفية والمواصفات التي أمكننا أن نلاحظها ونفهمها عن طريق الدراسة وقراءة الآثار. وليس معنى هذا أن نستبعد هذه العوامل تماما، وإنما نقول إن الكيفية والنوعية التي أعطت لهذه الحضارة شخصيتها أمراً يتجاوز العلاقات السببية.

وفي مقارنة عابرة وبسيطة، نجد أن هناك أماكن معزولة عن التقدم الحضاري، ظلت تعيد إنتاج معتقداتها، وأساليب الحياة التي عاشتها لآلاف السنين. هذا الوعي الذي تكون لدى المصري عن ذاته وعن العالم يؤكد مبدأ "الانبثاق" Emergence الذي لا يخضع لسببية مباشرة تبعا لنظرية التعقيد. الوعي في سياق بزوغ الحضارة المصرية، هو ارتباط بين وعي فردي عن معنى الحياة، وفي الوقت نفسه يشير إلى الانتماء إلى كيان أكبر، وقام هذا الوعي في شعب يحمل قيمًا مشتركة، ويتكون لديه معنى وطن. والوطن معنى عميق يترسخ في البناء النفسي للإنسان فهو السكن والأمان، وكلمة Home بالإنجليزية تطلق على الوطن وعلى السكن، وكان الوطن بالنسبة للمصري ليس مجرد أرض يعيش فيها، ولكنها معنى يحمله بين جوانحه، وعاش هذا الوعي كما عبر عنه البابا شنودة في مقولة شهيرة "مصر وطنٌ يعيش فينا، وليس وطنا نعيش فيه”.

علم النفس المعرفي والأنثروبولوجيا المعرفية والهوية

رؤية العالم ترتبط بنظرية الخريطة الفكرية Schema Theory التي انبثقت من علم النفس المعرفي، وتم استخدام هذه النظرية في إطار نظريات التعرف Cognition التي تجمع بين أكثر من علم، منها الأنثروبولوجيا المعرفية، وطب الأعصاب، والبيئة، وأيضا ساعدت على تطور الذكاء الصناعي في الكمبيوتر. (Rice, 1980) * مهد مجال البحث في علم النفس المعرفي، لتطور الأنثروبولوجيا المعرفية، حيث يركز هذا المجال البحثي على العلاقة بين الفكر والثقافة، ولا ينظر إلى الثقافة من حيث هي عادات وتقاليد، وإنما ينظر إليها بوصفها بناء فكرياً ينظم الواقع الاجتماعي ويخلق الممارسات الثقافية والاجتماعية (Tyler, 1969:3).

يدرس علماء الأنثروبولوجيا المعرفية Cognitive anthropology كيف يفهم البشر، وينظمون الأحداث والخبرات التي تكون عالمهم. فهي مقاربة تركز على دراسة كيف ينظم الناس الحقيقية تبعا لتقسيماتهم المعرفية Cognitive categories الخاصة بهم، وتفترض الأنثروبولوجيا المعرفية أن كل ثقافة تنظم الأحداث والحياة المادية والأفكار تبعا لمعاييرها الخاصة. والهدف الرئيسي للأنثروبولوجيا المعرفية هي أنها تعبر بصدق عن النظام المنطقي لفكر الناس تبعا لمعايير من الممكن اكتشافها وإعادة استخدامها من خلال التحليل.

وكان هذا بداية لظهور أنثروبولوجيا الوعي التي تؤكد أن التجربة الإنسانية تتصل بالوعي، ومن هنا فإن هذا المجال من الدراسة، يرفض الهجمة الشرسة للثقافة الأوروبية الأمريكية تحت اسم الحداثة في رفضها للحضارات الأخرى، ورغبتها في الهيمنة على تلك الثقافات لتخلق كيانات ممسوخة تتمسح في ارتداء ثوب الحضارة الغربية تعبيرًا عن التقدم، وتجاهلًا للجذور الثقافية التاريخية المتنوعة.

ارتباط الهوية بالوعي بالذات على المستوى الفردي والمجتمعي له بعده التاريخي العميق، حيث إن هذه الصورة عن الذات من ناحية، وما تحمله رؤية العالم من ناحية أخرى تُكَوَّن وبناؤها في تراكم تاريخي كلي. يتجاوز هذا الوعي التنوع الثقافي داخل المجتمع الواحد، لأنه يتجذر داخل اللاوعي الجمعي التاريخي، والهوية في هذا الإطار الكلي تتجاوز الإدراك الجزئي للمتغيرات الاجتماعية والثقافية (Taylor, 1969).

بمعنى آخر، لن يتغير الشعور بالهوية الوطنية لوجود أزمات اقتصادية، أو دخول أساليب استهلاكية جديدة، ويظهر الوعي بالذات عندما يشعر الإنسان الفرد بالانتماء إلى الوطن، انتماء يفوق ما يمر به من أزمة، أو ما يتمتع به من مكانة، وتاريخنا مليء بهذه المواقف في الأزمات، وفي الحروب المصيرية التي مررنا بها طوال القرن الماضي، ولعل ثورة 25 يناير هي الأقرب في ذاكرتنا، ثم انتفاضة 30 يونيو 2013، وفي كلا الحدثين، توحد شعب مصر، تجمعهم روح واحدة، وانهارت الحواجز الطبقية والدينية وكل الحواجز الأخرى، ظهر وعي بالوطن لم يكن متوقعًا، وقد اتهم الشباب حينئذ بالسلبية السياسية، وإذا بهذه الانتفاضة تعبر عن انتماء عميق للوطن، خرج من اللاوعي إلى الوعي في هذه اللحظات الحرجة. ** ونجد في الوقت نفسه أن الهوية المصرية بالمعنى الحضاري تجلت في هذه اللحظة على مستوى المجتمع كله.*** والتنظيم الذاتي داخل الميدان في الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير، يشرح تماما فكرة التشابكات غير المتوقعة ثم ما تسفر عنه من تنظيم تلقائي، لا ينطلق من سلطة تنظيمية، وهو ما تناولته نظرية التعقيد.

ومن الجدير بالذكر أن الباحثين في العلوم السياسية، وأفضل الخبراء في دراسات الثورة لم يكن في مقدورهم التنبؤ بالثورات المتتالية في العالم العربي التي بدأت في تونس، ثم مصر، وبعدها في سوريا وليبيا واليمن. ولم يقتصر ذلك على الباحثين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية على تنوعها، بل شمل أيضا الأجهزة الأمنية الداخلية، وأجهزة الاستخبارات العالمية. وأما المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تقارير المنظمات والهيئات الدولة لم تكن أحسن حظاً في تحليل ما يمكن أن يحدث قبل قيام هذه الثورات. إذ احتلت تونس عند اندلاع الثورة مرتبة عالية في استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكانت من أكثر البلاد العربية استقرارًا من الناحية الاقتصادية، وبها نظام تعليمي متميز، وعلاقاتها التجارية مع أوروبا في أوج ازدهارها، وكانت مصر تتمتع بنسبة عالية من النمو الاقتصادي. وهذا يشير إلى عجز التقارير التي تعتمد على التحليلات الكمية والبيانات التي تعتمد عليها في رؤية شاملة دقيقة لما يجئ به المستقبل. (عنصر, 2014). ولا نكتفي هنا بتأكيد أن الانتفاضتين أو الثورتين انبثقتا دون أن يسبق هذا توقعات من خلال الدراسات أو الاستخبارات، وإنما علينا أن ننظر أيضا إلى الخواص التي ميزَّت الثورتين المتعاقبتين.

هناك آراء عن تدخل أيدي أجنبية في خلق خلخلة في النظام السياسي المصري، والتمهيد للثورة السلمية التي شهدناها في 25 يناير 2011، وقد قيل إن حركة 6 إبريل دُرِّبَت على التنظيم لثورة سلمية تبعا لنظرية جين شارب Gene Sharp (1973)، وقد يكون في التحليل جانب من الصحة، إلا أن التداعيات التي حدثت بعد البدايات الأولى، لم تكن متوقعة. تحرك الشعب بقوة مهولة في البلاد من أقصاها إلى أقصاها شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. وعجزت كل المحاولات القمعية في كبح جماع الثورة، وانتقلت هذه الانتفاضة الشعبية من القاهرة إلى كل أنحاء البلاد، تجمعها روح واحدة، وبدون قيادة ظاهرة. وإن كانت جماعة الإخوان متربصة لتأخذ ثمرات الثورة لصالحها. لم يكن هذا ما يجول في قلوب المصريين الذين تسابقوا في تقديم أنفسهم وحياتهم من أجل نجاح هذه الثورة، ولا يمكن أن نختزل هذه الثورة إلى تدبير من جماعة سياسية اتخذت الإسلام رداء لها. ما حدث بعد 12 فبراير، أي بعد اعتزال الرئيس مبارك لم يتم دراسته بصورة شاملة، وإنما يتضح لنا أن الفوضى عمت البلاد، وتكالبت الأطياف كلها على الترشيح لرئاسة الجمهورية، وجاءت النتيجة غير متوقعة إطلاقا بفوز مرشح الإخوان، وهذا يطرح أسئلة كثيرة لدارسي العلوم الاجتماعية، لتحليل التناقضات التي ربطت بين انتفاضة شعبية أصيلة، وبين المتغيرات التي ظهرت بعد انسحاب رئيس الجمهورية، ثم تجمع الشعب من جديد ليلفظ نظاما غريبا على شخصيته.

اتسمت الثورة بسلمية في الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير، توقف الزمن وتوجهت أنظار العالم إلى مصر، ترقب ما يحدث على أرضها. كانت لحظة مشهودة يمكن أن نرى فيها عرضًا حيًا كيف يمكن أن يولد عالم جديد، حيث أصبح الكل ذائباً في الكل، كيانا واحدًا، لا تفرقه عقيدة أو طبقة أو أي عنصر آخر، وكان التنظيم عفويُا، ويحدث تقسيم للأدوار سريعا دون قيادة فوقية، تناغم فريد لا يستطيع أن يشرحه إلا من عاش هذه اللحظات. وهنا يمكن أن نجد فاعلية نظرية التعقيد في خاصية التنظيم الذاتي الذي لا يتطلب سلطة علوية.

وتأتي الانتفاضة الثانية بعد عامين للتخلص من حكم لا ينسجم مع الشخصية المصرية، التي كان "التدين"، من أهم سماتها لم تقبل هذا الفكر، لأنها أرادت أن تمحو طبيعة هذه الشخصية، لتجعلها تذوب في هوية دخيلة عليها، لفظها الشعب تلقائيا، واتحد من جديد ليتخلص من نهج فكري غير مألوف لديه. وحتى إذا اتفقنا أن الجيش قد مهد لهذه الانتفاضة، إلا أن الملايين التي خرجت في 30 يونيو، خرجت تلقائيًا.

ارتبطت الانتفاضتان بروح مصر الأصيلة، لتعرض كيف بدأت الحضارة، فهي وليدة لتفاعل عميق بين البشر، يثمر قيمًا إنسانية رفيعة، وفي هذه اللحظات، يكون هناك استعراض وبيان عملي عن صنع الحضارة، وعلى الرغم من أن هذا الحدث وقع في القرن الواحد والعشرين، إلا أن القيم التي ظهرت في ميادين مصر كانت تعبيرا عن مخزون أخلاقي رابض في اللاوعي الجمعي التاريخي. (Rafea, 2014).

المصرية بهذا المعنى شخصية تكونت منذ العصور القديمة؛ لأنها خلقت تجربة فريدة في الحياة الإنسانية إذن عند الحديث عن الشخصية المصرية فنحن في الواقع نتحدث عن تميز غير مسبوق عندما بدأ الإنسان في تقديم نفسه أخلاقيًا على المستوى الفردي واضعا المراقبة الذاتية أساسًا لعلاقاته على المستويات كلها، وبدا ذلك واضحا في الاعترافات النافية في وثيقة آني التي تم العثور عليها في متون الهرم. (Budge, 1967)، كان هذا تعبيرًا عن ظهور الضمير. ولهذا كانت الحضارة المصرية رسالة غير محلية، ولكنها رسالة للإنسان في كل مكان محفزة إياه أن يدرك معنى وجوده وسر إنسانيته، ومصر في هذا السياق ليست أرضا فقط أو شعبا فقط، ولكنها قيمة، وهي قيمة للإنسانية ليس فيها تفاضل أو عنصرية أو نزعة عصبية عرقية إثنية، ومن هنا كانت رسالة مصر رسالة للعالم، وهي عندما تنشر هذه الرسالة لا تفرضها فوقيا، ببساطة لأنه من المستحيل أن يطلب إنساناً من إنسان آخر أن يحاسب الذات، لأن حضارة مصر نبعت من رافدين متكاملين، الرافد الأول هي يقظة الإنسان الروحية والمعنوية من خلال إيمان بالحياة الآخرة، دون تغييب عن تقدير الحياة الدنيا، والعامل الثاني هو البحث الدؤوب من خلال الملاحظة الدقيقة عن أسرار الكون، وهو ما أفرز علماً استخدمه بمهارة في العمارة والطب والزراعة، وأوجد تقويما زمنيا دقيقا لشهور السنة تبعا لحركة الأرض حول الشمس.

الهوية والتاريخ

والهوية المصرية هي امتداد عبر التاريخ، أي إن المصريين شكلوا التاريخ، وشكلهم التاريخ في حوار وتشابك؛ فلا يكفي أن نعلن أنه يجمعنا تاريخ مشترك، ولكن المصريين هم الذين صنعوا هذا التاريخ. يذكر ميلاد حنا (1999) أن "الهوية أو الشخصية المصرية غنية بالانتماءات التي تراكمت عبر الزمان وبتأثير المكان" ويستخدم تعبير "رقائق"، إشارة إلى الثراء الحضاري الذي مرّت به مصر، ويؤكد أن حضارة المصريين القدماء ركيزة أساسية تكون القاعدة التي يقف عليها المصري، ثم يشير إلى الحضارة اليونانية – الرومانية، ويسير بنا إلى الحضارة القبطية المصرية المتداخلة مع الحضارة الإسلامية، ثم العثمانيون والدولة الحديثة، وأما من حيث المكان فهناك الانتماء إلى حضارة البحر الأبيض، ثم المحيط العربي، وأخيرا البعد الأفريقي.

على الرغم من التتابع التاريخي المذكور، والتداخل بين الحضارات ودورها في تكوين نسيج الشعب المصري، فهذا لا يشرح تماما ديناميكية التفاعل بين هذه الحضارات وخصوصية الهوية المصرية، ولهذا نجد أن نظرية النظم الكبرى تبين لنا أن ما حدث على مر التاريخ يرجع إلى النسق المفتوح الذي سمح للمصريين أن يتفاعلوا مع الثقافات الواردة تفاعلا خاصًا. ويشير النسق المفتوح في نظرية النظم الكبرى إلى استمرارية الحركة والتطور والتفاعل وهي سمات الكائن الحي. وهذه النظرية مستوحاة من علوم البيولوجي، إيمانا أن العلوم كلها تخضع لمبادئ عامة، على الرغم من تنوع التخصصات، فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى الخلية الحية، فهي تتفاعل مع البيئة المحيطة بها، وهو جزء منها، وهذه الخلية هي كل بالنسبة للمكونات التي تتفاعل بداخلها. (Laszlo & Krippner 1998) ولهذا فإن التشابك هو الذي يعطينا فهما لما يحدث سواء على المستوى النفسي أو المستوى المجتمعي الإنساني، ولهذا فإن فهم هذا التشابك، أي ذلك التفاعل المركب، يعطينا مرجعية كي نرى التغير الدينامي الذي من شأنه أن يحافظ على حيوية المجتمع، واتجاهه، وهو ما حافظ على الشخصية المصرية عبر تاريخها. (Weckowicz, 2000)

وإذا وظفنا نظرية النظم الكبرى في التحليل التاريخي للهوية المصرية، ندرك أن التاريخ كلٌ لا يتجزأ، وأن الحضارات التي مرت به، لم تفرض نفسها على الهوية المصرية، وإنما تفاعلت معها تفاعلا دينامي، وكان التغير هو تطور، دون أن يتبع مسارًا خطيًا، وإنما ينتج دائما جديدًا، دون مساس بالأساس العميق. بتعبير آخر نجد أن الشعب المصري احتفظ بهوية غير منقطعة عن ماضيها، ومن ناحية أخرى، فإن المصريين استوعبوا وهضموا الحضارات الوافدة، وأعطوها طابعهم المصري، وعبروا عن هذا في رموزهم الدينية بشكل عام، مع اختلاف المعتقدات. وهذا ما نلاحظه على سبيل المثال في التشابه بين معنى الأمومة التي مثلته إيزيس في الحضارة المصرية القديمة، وتجدد هذا المعنى في السيدة العذراء، ثم التعبير عن تقديس هذه الأمومة في السيدة زينب. على المستوى العميق يحمل المصري شعورا بالانتماء إلى الأمومة الذي تجلى في رموز مختلفة، ونجد في الفلكلور الشعبي تنوعات، قادمة من العصور القديمة، ويعاد التعبير عنها في رموز جديدة. وعلى الرغم من أن المصريين قد غيروا لغتهم من الفرعونية إلى القبطية، ثم العربية، إلا أن هذا لم يحدث عنهم شرخا في انتمائهم العميق للتكوين النفسي لحضارتهم. وهذا يأخذنا مباشرة إلى علم النفس التحليلي.

علم النفس التحليلي والشخصية المصرية

أحد المفاهيم الرئيسية التي أضافها كارل يونج إلى التراث العلمي الفكري هو "الأنماط الفطرية القديمة"Archetypes وفي إطار تناولنا للشخصية المصرية، تلعب هذه الأنماط الفطرية على المستوى العميق دورا في الارتباط النفسي بين أفراد المجتمع الواحد، بل إن الإنسان يكتشف ارتباطه الإنساني بالأسرة الإنسانية من خلال هذه الأنماط التي تربط بني البشر على مستوى اللاوعي الجمعي. وقد توصل يونج إلى الأنماط الفطرية من خلال دراساته المقارنة للفلكلور الشعبي في كثير من الحضارات؛ أي اعتمد يونج على الأنثروبولوجيا الثقافية على نحو خاص، وتشابه منهجه مع منهج لفي ستراوس والبنائية، وأثَّر في العديد من الأنثروبولوجيين مثل رالف لنتون Ralph Linton، أبرام كرنر Abram Krainer ، روث بندكيت، Ruth F. Benedict إدوارد سابير, Edward Sapir، ميلفورد سبيرو Edward Sapir، وإريك فروم، Erich Fromm وغيرهم. (Giuseppe, 2015).

الأنماط الفطرية التي عالجها يونج تظهر في التعبيرات الوجدانية الفنية، وتعبر عن الشخصية بمعناها العميق، حيث تحمل الأنماط الفطرية رسالة ذات دلالة نفسية في تحقيق الشخصية * Individuation، ومن هنا نجد أن الفنان والمفكر حامد سعيد (1908-2006) ومدرسته المصرية في الفن والحياة، قدم الشخصية المصرية من خلال امتدادها عبر العصور في الفنون. ** وبدون أن يستخدم تعبير الأنماط الفطرية القديمة، شرح الدلالات المشتركة بين الفن المصري القديم والفن القبطي والإسلامي، واشتراكهم في التعبير العميق عن "الشخصية المصرية". ***

التحديات التي تواجه الهوية

عندما ينقطع التيار النفسي الداخلي عن الجذر الحضاري، ويُخْفَى نتيجة للاستجابة للمؤثرات الخارجية التي تجعل الإنسان مهموما بالقيم المادية المطلقة، أو منجذبا إلى حياة فارغة من المعنى والقيمة، مختزلة في ضياع الوقت أو استنزافه، أو أيديولوجيات أصولية جامدة ومتطرفة، يختفي المخزون الحضاري الداخلي، وينتج عن هذا الانقطاع ضياع في الهوية، ويفقد الفرد الشعور بالانتماء إلى إنسانيته، وبالتالي يفقد الانتماء إلى المخزون الحضاري، ويفقد الإطار الفكري المشترك.

وإذا نظرنا إلى الوضع من منظور كلي، يمكن القول إنه من الطبيعي أن توجَد هويات مختلفة، ولكنها قد تكون متشابكة ومتفاعلة مع كلٍ غير مرئي، ومن غير الممكن أن نحدد حركة هذه المتغيرات المعقدة والمتشابكة، وإنما يمكن أن نوقظ وعياً كامنًا في اللاوعي من خلال إيقاظ شامل لمعنى إنسانية الإنسان، وتحقيقها. أما الخطب العنترية والتغني بقيمة الحضارة ومحاولة التحدث عنها من الخارج، فلن يكون إلا كلمات يسمعها من يسمعها، وينطلق في حياته اللاهية، المنسلخة عن إيجاد معنى للحياة من خلال دور يقوم به لنفسه داخل الوطن، ليكون جزءا حاضرا في وطن حاضن، وبيئة آمنة.

ليس مطلوبا ولا ممكنا أن نوقف ديناميكية التغير، وفي هذا التغيير المستمر والتفاعل غير المنظور قد يكون الانتباه إلى خلق ثقافة عامة تعلي وتحترم التفرد، وتتوجه إلى إتاحة الفرصة للتعبير عن الذات، وإيقاظ الشعور الفطري بارتباط الجزء بالكل البيئي والمجتمعي والكوني الذي يؤدي إلى الارتباط بالمقدس، ربما كان هذا طريقاً لاستعادة المصريين للروح التي خلقت الحضارة.

وحتى يحدث هذا فإننا ندرك ونسلم أن هناك تشابكاً بنائياً بين كل مكونات المجتمع، وعند توظيف نظرية النظم الكبرى يمكن أن يكون هناك تضافر مجتمعي باستخدام قانون الحركة الدينامية لنفهم من خلاله النظم الاجتماعية التي أفرزت هذا التفكك المعرفي، فهناك تركيبات صغيرة داخل تكوينات أكبر، وقد تحارب البناء الأكبر مثل الخلايا السرطانية، ولهذا يجب تقوية الجهاز المناعي، المتمثل في إعادة الإنسان لرؤية ذاته وتفجير إمكانياته الإبداعية، والعمل على إعادة تشبيك التكوينات المنعزلة بعضها عن البعض من خلال دراسة الأنظمة التي خلقت هذا التفكك، وتشبيكها باستخدام النهج التنظيمي الذي يحكم القوانين الطبيعية وتطبيقه على البيئة الثقافية، وهذا التشبيك من شأنه أن يعيد التنظيم تلقائيا كما يحدث على المستوى البيولوجي. من الممكن أن نعتبر أن المعلومات الموجودة داخل الثقافة تقوم بالدور نفسه الذي يقوم به DNA الحمض النووي، فهي التي ترشد إلى تكرار التكوينات الاجتماعية، مثلها في ذلك مثل الحمض النووي الذي يوصل المعلومة من أجل تكرار التكوينات البيولوجية. نستطيع من خلال رؤية الثقافة في إطار تجاوزها للأفراد، إلى المجتمعات، من خلال الأدوات المفاهيمية مثل فكرة الخرائط المعرفية على المستوى الفردي والجماعي قد يسمح لنا أن نطبق التشتت البنائي في الطبيعة على تطور أبعاد النظم الاجتماعية الإنسانية الجماعية والفردية.

أي لا يقوم استرجاع الهوية الحضارة وما تحمله من قيم إنسانية إلى الإملاء الخارجي، وإنما بإتاحة البيئة الصالحة كي تظهر هذه القيم المختزنة في اللاوعي الجمعي، والبيئة الصالحة كما هو في علوم الطبيعة، فإن نمو النبات، يستلزم مجموعة من المتطلبات الضرورية، وأما عملية النمو نفسها فهي عملية طبيعية تخضع لقانون.

نتائج الدراسة

وجد الكثيرون من الأنثروبولوجيين وعلماء النفس والاجتماعيين أن العلم الحديث الذي نشأ في أوروبا وأمريكا علمًا غير متكامل، وانتبهوا إلى ضرورة استخدام المقاربات البينية Interdisciplinary وذات الاتجاهات المتعددة Multidisciplinary وعلم النفس التجاوزي Transcendental psychology في دراساتهم.

هناك نقلة نوعية في الوعي في نظريات الوعي، وإدراك الحقيقة، وظهور علوم جديدة، وفلسفات جديدة، ونظريات معرفية جديدة، أي هناك تحول في المقاربات العلمية، في مجالات عديدة على ما يحدث في مجالات دراسات البيئة، والفيزياء الحديثة، ونظرية التعقيد Complexity theory.

وتشترك هذه المقاربات العديدة في سمة رئيسة، إذ إنها تعتمد بصورة مباشرة أو غير مباشرة على رفض والتخلص من النموذج المادي الذي سيطر على التفكير العلمي لردح طويل من الزمن. وكان هذا ضرورياً لتحويل الوعي من العلاقات السببية، بوصفها العلاقات الوحيدة للتفسير والتحليل، إلى دور وظيفي مستقل عنها. والعلاقة الاستقرائية التي كانت تسير من أسفل إلى أعلى على مستوى الماكرو، كان لا بد أن يحل محلها علاقات متبادلة بين الاتجاهين، من أسفل إلى أعلى، ومن أعلى إلى أسفل، يمتد إلى دور الوعي في العناصر الدنيا، وهذا لا يعني الاختزال للإنجازات السابقة المعتمد على العلاقات السببية تماما، ولكنه يضم هذا في داخل إطار أوسع من التحليل والتفسير. وقد ظهر بالفعل نماذج، وعلوم ورؤى ونظريات أخرى بداية من نظريات الكم في الفيزياء ونظرية التعقيد التي تضمنت نظرية العشوائية Chaos Theory إلى اتجاهات ما بعد الحداثة. وأعيد اكتشاف الوعي، وارتدي ثيابًا جديدة، نحن الآن في مرحلة تغير جذري، ولا ندري ما الذي سينتج من هذا التغير في المستقبل.

أصبح التركيب Complexity خاصية رئيسة في العالم الذين نعيش فيه، وليس شيئا مستحدثا أن يحاول العلم أن يفهم النظم المعقدة والمركبة، ولكن الجديد في الأمر ليس هو دراسة نظام مركب ومعقد بعينه، وإنما دراسة دلالة التعقيد والتركيب في حد ذاتها. ومن هنا لا يستطيع الأنثروبولوجي، أو أي باحث معرفي يستهدف رؤية شاملة أن يتجاهل ماذا يعني التركيب والتعقيد.

تعطي نظرية التعقيد Complexity theory مساحة للنظر إلى الظاهرة الاجتماعية بوصفها ظاهرة لا تتبع الاتجاه الخطي الذي يبحث عن الأسباب المباشرة، وإنما تنظر إلى الظاهرة الاجتماعية أو الموضوع المطلوب دراسته بشكل كلي دينامي، حيث ينتج عن التفاعل بين أفراد المجتمع أو بين المؤسسات المجتمعية المختلفة نتائج غير متوقعة. وفي مجتمع مركب من متغيرات متشابكة، فإنه يواجه تحديات عظمى، ومنها فقدان الشخصية الحضارية، ولكن الأمل في هذه الشخصية يجب أن يكون الملهم وراء الدراسات البينية، وتفاعل بين المجتمع المدني وبين الإعلام ومؤسسات التعليم من أجل تحفيز قدرة المصري أن يكتشف ذاته من جديد، ويتحمل مسؤوليته في نهضة حضارية مصرية، من أجل مصر ومن أجل العالم.

عن المؤلف

ا.د/ علياء رضاه رافع

أستاذ متفرغ بقسم علم الاجتماع بكلية البنات للآداب والعلوم والتربية - جامعة عين شمس

  • أنشأت مؤسسة البناء الإنسانية والتنمية عام 2011. كما أنشأت دار نشر تابعة للمؤسسة عام 2016.
  • ترجمت عدد من الكتب المهمة، منها السيرة الذاتية لعالم النفس كارل يونج Memories, Dreams, and Reflection، وكتاب الثالوث الخطر للعالم المعروف نعوم تشومسكي The Fateful Triangle: USA, Israel & Palestine، وكتب التقديم السيد عمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، وشاركت في ترجمة بعض مؤلفاتها من العربية إلى الإنجليزية.
  • سافرت في مؤتمرات حول العالم، وألقت محاضرات في سويسرا، وألقت كلمة في مقر الأمم المتحدة في كينيا عام 2012 مع وفد Global Peace Initiative of Women، وغيرها من المؤتمرات الدولية في المملكة المتحدة، وإيطاليا، والهند، المكسيك، الولايات المتحدة، وكينيا، وغيرها. كما نظمت مؤتمرًا دوليًا مع مكتبة الإسكندرية وافتتح د. إسماعيل سراج الدين المؤتمر، وحضره لفيف من السيدات من أنحاء العالم، عام 2016.
  • عملت أستاذٍا زائرًا في كلية راندولف وماكون في ولاية فيرجينيا في العام الدراسي 2001- 2002.
  • عملت خبيرا في جامعة الدول العربية عام 2005، تبعا لوحدة السكان، وسافرت إلى لبنان وتونس والمغرب في مشروع تمكين الشباب.
  • منحتها المنظمة الدولية للمرأة في الهند All Ladies League جائزة لدورها في تدعيم رسالة الوحدة الإنسان.
  • لديها قناة يوتيوب تعرض فيها صالونها الثقافي.
  • كتبت عشرات المقالات في الجرائد المصرية والعربية (صحيفة الشرق الأوسط – الأهرام المسائي – نهضة مصر.
  • نشرت أعمالها العلمية في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والهند واليابان والمغرب، بالإضافة إلى الكتب والأبحاث التي نشرت لها باللغة العربية.

للمزيد من الكتابات والأنشطة يمكنكم الاطلاع عليها في موقع الويكيبديا

https://en.wikipedia.org/wiki/Aliaa_Rafea

وكذلك موقع مؤسسة البناء الإنساني والتنمية

https://hfegypt.org/

  • مراجع عربية

    • برستيد، هنري. (2012). ترجمة د. سليم حسن، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012
    • حزين، سليمان. (1995). حضارة مصر. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة
    • حمدان، جمال (1981-1984). شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان. أربع أجزاء. دار الهلال، 1981 –1984
    • حنا، ميلاد. (1999). الأعمدة السبعة للشخصية المصرية. دار نهضة مصر.
    • الدماطي؛ ممدوح. (1918). (محاضرة ألقيت في مؤسسة البناء الإنساني والتنمية)

    https://www.youtube.com/watch?v=qyzYP4O75HY&t=70s

    • رافع، علياء رضاه. (1996). الشخصية المصرية: دراسة أنثروبولوجية للمدرسة المصرية للفن والحياة، دار صادق. الإسكندرية.
    • سعيد، حامد. (1977). المعنى الثقافي للثورة. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
    • سعيد؛ محمد السيد محررا. (1999). حكمة المصريين، مركز القاهرة لحقوق الانسان.
    • علي، عبده رمضان. (2005) حضارة مصر القديمة منذ أقدم العصور حتى نهاية عصر الأسرات الوطنية. المجلس الأعلى للآثار.
    • نصر، العياشي. (2014). لماذا فشل علم الاجتماع في التنبؤ بالربيع العربي، مؤتمر علماء الاجتماع العرب أمام أسئلة التحولات الراهنة. مخرجات مؤتمر تنظيم الجمعية العربية لعلم الاجتماع، بالاشتراك مع المركز الوطني للبحوث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، 18، 19، 20 فيفري 2014
    • فؤاد، نعمات أحمد. (1998). شخصية مصر. الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 5.
    • ميهارس، شارون؛ رافع، علياء رضاه؛ وآخرون. (2011). أس الشرور: عرض للتعصب والأصولية واختلال موازين القوى بين الجنسين. ترجمة سهام عبد السلام. المركز القومي للترجمة، العدد 1865.
    • قاموس المعاني: https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9

    مراجع أجنبية

    • Benedict, Ruth. (1946/2005). The Chrysanthemum and the Sword: Patterns of Japanese Culture. Houghton Mifflin. ISBN: 978-0-395-50075-0
    • Blainey, Marc. (2010). Towards an Ethnometaphysics of Consciousness: Suggested Adjustments in SAC’s Quest to Reroute the Main (Stream). Anthropology of Consciousness, Vol. 21, Issue 2, pp. 113–138. DOI: 10.1111/j.1556-3537.2010.01025.x
    • Breasted, James Henry. (1934). The Dawn of Conscience. Charles Scribners Sons. New York, London.
    • Budge, Ernest Alfred Wallis (1967). The Book of the Dead: The Papyrus of Ani in the British Museum. Courier Corporation.
    • Cobern, William W. (1993). World View Metaphysics and Epistemology Scientific Literacy and Cultural Studies Project Working Paper No. 106.
    • Durkheim, Emile. (1964). The Elementary Forms of Religious Life. Translated by Joseph Ward Swain. Fifth edition. London.
    • Giuseppe, Iurato. (2015). A Brief Comparison of the Unconsciousness as Seen by Jung and Levi-Strauss. Anthropology of Consciousness, Volume 26, Issue 1, May 2015, p. 60-107. https://doi.org/10.1111/anoc.12032
    • Hannah, Barbra A. (1981). An Encounter with the Soul: Active Imagination as adapted by C.G. Jung. SIGO PRESS.
    • Laszlo, Alexander and Stanley Krippner Published in: J.S. Jordan (Ed.). (1998). Systems Theories and A Priori Aspects of Perception. Amsterdam: Elsevier Science (Advances in Psychology, Volume 126). Ch. 3, pp. 47-74. Hardback ISBN: 978-0-444-82604-6, eBook ISBN: 9780080542218.
    • Manis, Jerome G., and Bernard N. Meltzer. (1978). Symbolic Interaction: A Reader in Social Psychology. Third edition. Boston: Allyn and Bacon.
    • Rafea, Aliaa R. (2014). The need of the resurrection to the Egyptian feminine spirit. International Journal of Gender, Nature & Transformation, Volume 1, issue 1.
    • Rice, G. Elizabeth. (1980). On Cultural Schemata. American Ethnologist. Vo. 7. No. 1, pp. 152-171.
    • Schroll, M.A., and GREENWOOD, S. (2011). Worldviews in Collision/Worldviews in Metamorphosis: Toward a Multistate Paradigm. Anthropology of Consciousness. 22: 49-60. https://doi.org/10.1111/j.1556-3537.2011.01037.x
    • Sharp, Gene. (1973). The Politics of Non-Violent Action, 3 Volumes, Porter Sargent, 1973
    • Sheldon, Hackney. (1996). Who Are We? Anthropology Newsletter. Volume 36, Number 2, February 1996
    • Smedley, Audrey. (1998). Race and the Construction of Human Identity," American Anthropologist, Volume 100, No. 30, p. 690-702.
    • Taylor, S. E., & Crocker, J. (1981). Schematic bases of social information processing. In E. T. Higgins, C. A. Herman, & M. P. Zanna (Eds.), Social cognition: The Ontario Symposium on Personality and Social Psychology, pp. 89-134. Hillsdale, NJ: Erlbaum.
    • Tyler, Stephen A., editor. (1969). Cognitive Anthropology. New York: Holt, Rinehart, and Winston.
    • Varshizky, Amit. (2019). Volkerpsychologie and its influence on National Socialist Racial Theory. Center for Systems Research, University of Alberta Working Paper Paper No.89-2, MORESHET • VOL. 16. p369-40
    • Weckowicz, Thaddus E. (2000). Ludwig von Bertalanffy (1901-1972): A Pioneer of General Systems Theory.". Center for Systems Research, University of Albertan. CSR Working Paper No. 89-2