مقدمة
التكنولوجيا هى تطبيقات لمعارف يكتسبها الإنسان من خبراته وتجاربه فى حياته اليومية - ككائن عاقل - منذ فجر البشرية ، ليصنع منها أدوات ووسائل تعينه على الحياة والتعامل مع بيئاته التى يعيش فيها . ومنذ العصر الحجرى ، وعلى امتداد العصور والأزمنة حتى يومنا هذا ، توجد علاقة طردية بين تطور : معارف الإنسان ، وأنساق التكنولوجيا لديه ، وأنماط الثقافة والبناء الاجتماعى فى المجتمعات التى يعيش فيها . وهناك نظريات ودراسات علمية مستفيضه حول مراحل التطور فى هذه المجالات الثلاثة ، وتفاعلها بعضها مع بعض ، ونواتج هذا التفاعل . وقديما كان التطور يحدث ببطء ، ولكنه يحدث بوتيرة أسرع فى المراحل اللاحقة كلما تراكمت وازدادت خبرات الإنسان ومعارفه ، وتقدمت أنساقه التكنولوجية كما ونوعا ، وتعقدت أنماطه الثقافية وأبنيته ونظمه الاجتماعية . وهكذا يزداد التقدم التكنولوجى سرعة بمرور الوقت ، حتى بلغ فى المجتمعات المتقدمة مانشاهده الآن من تقدم مذهل فى مختلف المجالات ، إمتدت تأثيراته لتشمل المجتمعات الإنسانية على امتداد العالم ، وهو ماسوف نناقشه هنا على نحو مفصل
وجدير بالذكر ، أن تناولنا لهذا الموضوع يجب أن يتبنى منظورا علميا تكامليا متعدد التخصصات ( Multi - Disciplinary Approach ) يسمح بالنظر فيه من زوايا : اجتماعية ، وأنثروبولوجية ، وثقافية ، وإعلامية ، ونفسية ، وسياسية ، واقتصادية ، ودينية ، وتربوية ، وفنية ، بالإضافة إلى الزاوية التكنولوجية . ويشمل ذلك العناصر التالية
التغير الاجتماعى والثقافى ، فى ضوء مفهوم الثقافة (Culture) بمعناها الإثنوجرافى الواسع
التغير الاجتماعى والثقافى فى ضوء مفاهيم وعمليات "التثاقف"
الثقافة والمجتمع والتكنولوجيا من منظور تكاملى
شيوع مصطلح العولمة (Globalization) فى بداية تسعينات القرن الماضى ، وانشغال العلماء والباحثين بقضايا "العولمة الثقافية " و " الهوية " والتهديات والمخاطر التى تتعرض لها الخصوصيات والثقافات الوطنية
التقدم المتسارع فى مجال تكنولوجيا الاتصال ونظم المعلومات ، والإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعى ، والعالم الافتراضى ، وبرامج الروبوتات والذكاء الاصطناعى . رؤية نقدية تقويمية
استشراف آفاق المستقبل ، والتحوطات التى يجب الوعى بها ، والتدابير التى يجب اتخاذها
أولا – التغير الاجتماعى والثقافى فى ضوء مفهوم الثقافة (Culture) بمعناها الإثنوجرافى الواسع
هناك تعريفات كثيرة لمصطلح " الثقافة " تجرى على ألْسِنَة غير المتخصصين ، وهى تعريفات ضيقة ، تتعدد تبعا لتعدد وجهات النظر والاهتمامات ، وما يتصل بها من اعتبارات مهنية وتعليمية وفنية وغيرها . فمن الناس من يرى الثقافة على أنها سعة الاطلاع والإلمام بكثير من المعارف فى مجالات متعددة ، وأن الشخص "المثقف" هو "من يأخذ من كل شيئ بطرف" . ومنهم من يراها على أنها كل مايتصل بالفنون والآداب وما يرتبط بهما من حركات إبداعية ونقدية فى مجالات عديدة ومتنوعة ، تنظمها وتشرف عليها مؤسسات ومراكز رسمية وأهلية .
وهناك تعريف واسع للثقافة يقدمه المشتغلون بالأنثروبولوجيا الثقافية ، يتفقون فيه على أنها تشمل كل مخططات الحياة البشرية ، كما يتبنى كثير منهم ذلك التعريف الشهير الذى قدمه عالم الأنثروبولوجيا البريطانى الأشهر " إدوارد بيرنت تايلور" Tylor ، فى مقدمة كتابه الصادر عام 1871 م عن جامعة أوكسفورد بعنوان "الثقافة البدائية" ، حيث عرّف الثقافة بمعناها الإثنوجرافى الواسع بأنها " ذلك الكل المركب ، الذى يشتمل على : المعرفة ، واللغة ، والفن ، والأخلاق ، والمعتقدات ، والعادات والتقاليد ، والمعايير والأعراف الاجتماعية ، وكل ماينتجه الإنسان كعضو فى مجتمع "
إدوارد بيرنت تايلور
وبالنظر مليا فى هذا التعريف الجامع يتبين أنه يحتوى على مصطلحات مهمة عديدة أولها "المعرفة" Knowledge ، وهو مصطلح مجرد يشير إلى كل مايمتلكه الإنسان – ككائن بشرى عاقل – من معارف وخبرات وتجارب يكتسبها عبر مراحل حياته المختلفة ، خلال تعامله مع البيئة التى يعيش فيها وتفاعله مع أبناء المجتمع الذى يعيش فيه . ومن هنا فإن الثقافة بمختلف مكوناتها هى قاسم مشترك بين بنى البشر جميعا ، مهما اختلفت خصائصهم والمواقع التى تحتلها مجتمعاتهم على متصل الفروق البدائية – الحضرية.
ولقد وجد موضوع التطور الثقافى اهتماما كبيرا لدى طائفة من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا . فقد ذهب الفيلسوف الفرنسى "مونتسكيو" فى القرن الثامن عشر إلى أن الثقافة الإنسانية قد مرت فى تطورها عبر مراحل ثلاث هى : "مرحلة التوحش" وهى أقدمها جميعا حيث كان الإنسان البدائى يعتمد فى حياته على الصيد ، ثم أعقبتها "المرحلة البربرية" وهى التى استأنس فيها الحيوان واعتمد فى حياته على الرعى ، ثم تلتها "مرحلة الحضارة" التى لاتزال مستمرة حتى الآن ، وهى التى بلغ فيها الإنسان مبلغا كبيرا من المعارف والخبرات والتجارب والتكنولوجيا وتطبيقاتها فى مختلف مجالات الحياة.
وفى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وعلى إثر عالم البيولوجيا الشهير "تشارلز داروين" حيث صدر له فى عام 1859م كتابه الأشهر بعنوان "أصل الأنواع" ، الذى عرض فيه نظريته عن التطور والارتقاء ، وذكر فيه مقولته الشهيرة "البقاء للأصلح" . وجدت هذه النظرية صدى كبيرا لدى كثير من المفكرين والباحثين فى تلك الآونة ، وتأثر بها كثير من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية حينئذ ، حتى أنهم استلهموها فى نظرياتهم حول التطور الاجتماعى والثقافى . وفى هذا الإطار ظهر تيار فكرى يأخذ بفكرة "المماثلة العضوية" وهى تشبيه المجتمع فى تطوره بالكائن الحى ، ومن ذلك ماقال به "هربرت سبنسر" بأن المجتمع فى تطوره ينتقل من البسيط إلى المعقد ، وينتقل الأخير إلى ماهو أكثر تعقيدا ، وهكذا بمرور الوقت . فالطفل الوليد يكون بناؤه الجسمانى عند ولادته بسيطا حيث لاتكون أجهزته قادرة بعد على أداء وظائفها ، ولكنها بمرور الوقت تنمو وتنضج ، فتراه يحبو، ثم يقف ويمشى ، وينطق ببعض الكلمات ، ثم تزداد حصيلته اللغوية فيصيح قادرا على الحديث والتخاطب مع غيره . كما تتسع دوائر إدراكه ووعيه تبعا لزيادة قدراته العقلية ، وعند وصوله سن البلوغ يصبح قادرا على الزواج والإنجاب وتكوين أسرة تؤدى بدورها وظائفها فى المجتمع . وهكذا أيضا يرى "سبنسر" أن المجتمع فى تطوره يبدآ بنواة بسيطة هى الأسرة النووية ، ومع زواج الأبناء فيها وإنجابهم تصبح أسرة ممتدة ، وبمرور الوقت تتسع دائرة القرابة وتظهر الانقسامات والفروع وتتكون العشائر والقبائل . وفى المجتمعات الريفية تشكل العائلة أو الوحدة القرابية الصغيرة نواة لأحد التوابع أو النجوع ، الذى ينمو ويتطور بدوره بمرور الوقت ليصبح قرية صغيرة ، فقرية كبيرة ، فمركز حضرى أو مدينة صغيرة ، وهكذا .
وهكذا ظهر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر تيار فكرى يعرف بـ "الدارونية الاجتماعية" ، الذى يضم عددا من المشتغلين بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا من أصحاب الفكر التطورى ومنهم "سبنسر" و "تايلور" و "لويس مورجان" Morgan ، الذى تبنى الآراء التى قال بها الفيلسوف الفرنسى مونتسكيو فى القرن الثامن عشر كما ذكرنا من قبل ، مع تقسيمه – مورجان - كلا من المرحلتين الأولى والثانية (التوحش و البربرية) إلى ثلاث شرائح أو مراحل فرعية متتابعة بمرور الوقت ، وتتميز كل منها عن سابقتها وفقا لتطور النسق التكنولوجى الذى يساعد الإنسان فيها على ابتكار وسائل وأدوات تحقق له مزيدا من الراحة والمنفعة فى حياته
وفى النصف الأول من القرن العشرين حظيت الثقافة أيضا باهتمام كبير من جانب بعض اصحاب النظرية الوظيفية من الأنثروبولوجيين ، ومن أبرزهم "برونسلاو مالينوفسكى" Malinowski . فقد ذهب إلى أن الثقافة هى أساس نشأة النظم الاجتماعية فى كل مجتمع إنسانى ، ودلل على ذلك بأنها هى الإطار الذى ساعد الإنسان فى بادئ الأمر على إشباع حاجاته الأساسية اللازمة للحياة : فحاجته إلى الطعام والقوت دفعته إلى السعى الجاد فى طلبهما ، مما أدى إلى نشأة "النظام الاقتصادى" ، وحاجته إلى إشباع غريزته الجنسية بطريقة صحيحة أدت إلى نشأة "النظام القرابى" ، وحاجته إلى الأمن أدت إلى نشأة "نظام الضبط الاجتماعى" ، وهكذا فى كل نظم المجتمع
برونسلاو مالينوفسكى
ب – خصائصها
تتسم الثقافة بعدد كبير من الخصائص التى نكتفى بذكر بعضها فيما يلى
إنسانية : أى أنها دالة على إنسانية الإنسان ككائن كرمه الله وميزه بالعقل والإرادة . واختصه بهما دون باقى الأنواع فى المملكة الحيوانية . فاللغة مكون من مكونات الثقافة كما سبق فى تعريف تايلور . وهى وسيلة اتصال وتفاعل بين الناس ، ولكنها ليست واحدة يشترك فيها البشر جميعا فى كل مجتمعات العالم ، وإنما تتعدد وتختلف من منطقة لأخرى ومن مجتمع لآخر ، لأن كلا منها يمثل اختيارا إراديا ارتضاه أبناء تلك المنطقة أوذلك المجتمع للتعبيرعن خصوصيتهم وهويتهم الثقافية التى تميزهم عن غيرهم . ولذا فإن دراسة اللغويات Linguistics تمثل فرعا من فروع علم الأنثروبولوجيا الثقافية
تكتسب بالتعلم : فالإنسان يولد وليس لديه شيئ من الثقافة . فالله سبحانه وتعالى يقول فى سورة النحل ، الآية (78) : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " . أى أن الجنين الوليد عند ولادته لايعلم شيئا ولكن الله وهبه الوسائل والأدوات التى يمكنه بواسطتها أن يكتسب هذه الثقافة عبر مراحل نموه المختلفة ، من خلال إدراكه وتعامله مع الواقع الطبيعى الذى يعيش فيه والمجتمع الذى يتفاعل معه
مستمرة : فهى مستمرة وباقية مادام المجتمع البشرى موجودا ، لأن كليهما وجهان لعملة واحدة. كما أن الفرد لايزال يكتسبها ويتعلمها ويمارسها مادام حيا
متغيرة : فهى تتسم بالمرونة وتتطور وتتغير عبر مراحل تطور المجتمع . ويمكن التحقق من ذلك بوسائل منهجية للمقارنة بين ملامح الثقافة أو بعض جوانبها فى مجتمع ما خلال فترات زمنية وتاريخية مختلفة
نسبية : أى أنها تتفاوت بين العمومية والخصوصية على مختلف المستويات كما يلى
الثقافة الإنسانية العامة : وهى التى يشترك فيها الناس جميعا فى كافة أنحاء العالم بحكم وحدة انتمائهم إلى الجنس البشرى ، فهم يتشابهون فى كل مكان فى استغلالهم لموارد البيئة الطبيعية التى يعيشون فيها ، كالصيد البرى والبحرى ، والزراعة ، والتعدين ، والتبادل التجارى ، وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية . ويتشابهون فى معيشتهم داخل أسر ووحدات أو جماعات قرابية تؤدى وظائفها الإنجابية والاقتصادية والتربوية وغيرها فى إطار الحياة الاجتماعية
المنطقة الثقافية : وإذا كانت الثقافة الإنسانية العامة تمثل أوسع دائرة تعبر عن أعلى مستوى من العمومية الثقافية ، فإن "المنطقة الثقافية" تمثل دائرة أضيق تقع فى داخلها ، وتعبر عن مستوى أقل فى العمومية . فالمنطقة الثقافية مصطلح يشير إلى نطاق جغرافى معين يضم عددا من المجتمعات التى تشترك معا فى ملامح ثقافية معينة كاللغة والدين والعادات والتقاليد وغير ذلك من أساليب الحياة . ويمكن أن نضرب مثلا على ذلك بالدول العربية من المحيط إلى الخليج ، فهى تمثل منطقة ثقافية تختلف عما عداها من مناطق أخرى تقع فى أوروبا أو آسيا أو غيرهما من قارات العالم
(جـ) الثقافة الوطنية : وهى تمثل دائرة أضيق تقع فى داخل دائرة المنطقة الثقافية . فلكل من بلدان العالم العربى خصوصيته الثقافية المميزة التى تتضح فى أنماط الملبس ، واللهجات ، وبعض الطقوس والممارسات المتصلة بالعادات والتقاليد وغيرها
الثقافة الفرعية : وهى تمثل دائرة أضيق تقع داخل دائرة الثقافة الوطنية . فمع أن المصريين جميعا ينتمون إلى ثقافة مصرية واحدة تعبر عن هويتهم وخصوصيتهم ، هناك أيضا ثقافات فرعية مصرية تميز كلا من البدو سكان الصحارى ، وسكان القرى الريفية ، والمناطق الساحلية ، وسكان المدن والعواصم الحضرية
(هـ) الفروق الفردية : وهى تمثل أضيق دائرة حيث تقع داخل دائرة الثقافة الفرعية . فالأفراد حتى داخل الأسرة الواحدة يتفاوتون في حظوظهم من المعارف والخبرات والتجارب والنظرة للحياة والعالم
معيارية : فهى تحدد المعايير التى يتبعها أبناء المجتمع فى سلوكهم وتفاعلهم بعضهم مع بعض ، ومع الآخرين . وتضفى على الأفعال وأنماط السلوك معانيها التى يتفقون عليها ، ويتوقعونها فى مختلف المواقف ، كما يتفقون على ردود الأفعال حيالها . فهم يستهجنون العلاقة الحميمة بين شاب وفتاة لاتربطهما روابط اجتماعية ودينية كخطبة أو زواج ، بينما يباركون هذه العلاقة فى إطار تلك الروابط . وهم يصفون من يطلق الرصاص من بندقية على أحد المارة فى الشارع دون جريرة بأنه مجرم آثم يستحق المحاكمة والسجن أو القتل قصاصا ، بينما يصفون الشخص ذاته بأنه بطل يستحق التكريم عندما يقتل كثيرا من الأعداء فى ميدان القتال دفاعا عن الوطن
ثانيا - التغير الاجتماعى والثقافى فى ضوء مفاهيم وعمليات " التثاقف "
يقصد بمفهوم التثاقف Acculturation اتصال الثقافات بعضها ببعض على امتداد العالم ، والتأثير المتبادل فيما بينها من قبيل الأخذ والعطاء ، مما يؤدى بمرور الوقت إلى إحداث تغيرات فى كلٍ منها بدرحات متفاوتة حسب ظروف كل مجتمع . ولاتحدث هذه التغيرات بين يوم وليلة ولكنها تمر بمجموعة من العمليات المتتابعة الحدوث على النحو التالى
أ – الآتصال ( الاحتكاك) Contact : أى اتصال الثقافات بعضها ببعض . ويحدث بوسائل عديدة ، كحركة السكان الدولية لأغراض السياحة والسفر ، والتجارة ، والعمل ، وطلب العلم ، وغير ذلك . كما أصبحت وسائل الاتصال الجماهيرى والإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى تلعب دورا مهما ومؤثرا فى هذا المجال .
ب – الانتشار Diffusion : أى انتقال بعض عناصر الثقافة الخاصة بمجتمع ما إلى غيره من المجتمعات الأخرى عبر تلك الوسائل ، وتلقيه منها بدوره بعضا من عناصر ثقافاتها .
ج – الصراع Conflict : أى الصراع الذى يحدث بين عناصر الثقافة الوطنية التقليدية الأصيلة للمجتمع ، والعناصر الجديدة الوافدة إليه من خلال عملية الانتشار . ويحدث هذا الصراع غالبا كآلية من آليات الدفاع عن الهوية الثقافية الخاصة وحمايتها من مخاطر العبث أو الطمس أو التشويه وغير ذلك من التأثيرات الضارة التى تتعرض لها بفعل عوامل خارجية .
د – الاستعارة Borrow : وهى قبول بعض العناصر الوافدة التى كشفت عملية الصراع أنها لاتمثل خطرا على ثقافة المجتمع ، وإخضاعها لمزيد من الفحص حتى تحظى بدرجة أعلى من القبول عن اقتناع.
هـ - التكيف Adjustment : أى زيادة التوافق بين أبناء المجتمع على جدوى هذه العناصر الجديدة وقبولها دون تحفظ .
و – التبنى Adoption : وهو الأخذ بالعناصر الجديدة عن رضا واقتناع ، وممارستها كإضافة إلى الثقافة الوطنية .
ز – التغير Change : وهو التغير الذى يطرأ على ثقافة المجتمع كما يبدو فى هذه العناصر الثقافية الوافدة المضافة . وألى جانب الإضافة ، فإن التغير الثقافى - مرورا بالعمليات السابقة – يمكن أن يتخذ أيضا مظاهر أخرى : كالتعديل ، والإبدال ، والحذف ، وغير ذلك .
ثالثا – الثقافة والمجتمع والتكنولوجيا من منظور تكاملى :
يتحدد وجود المجتمع وأوضاعه وخصائصه بعوامل أو مقومات أساسية هى :
أ – العامل الطبيعى (الموقع الجغرافى ، والبيئة الطبيعية : صحراوية ، ريفية ، حضرية ، ساحلية ، إلخ).
ب – العامل الديموجرافى ( السكان وتوزعهم على مختلف المناطق داخل الحدود )
ج – التراث المشترك لدى السكان (الثقافة Culture )
د – التنظيم ( نواتج التفاعل بين المقومات الثلاثة السابقة بعضها وبعض ) : فالإنسان يتأثر ببيئته الطبيعية التى يعيش فيها ، كما أنه يؤثر فيها أيضا . وبتفاعل سكان الصحارى مع بيئتهم تتولد الثقافة الفرعية البدوية ، وهكذا أيضا بالنسبة للثقافات الفرعية الأخرى : الريفية والحضرية والساحلية والجبلية ، وغيرها . كما أن المجتمع بمقوماته الأساسية الأربعة السابقة أيضا يمكن أن يتحدد موقعه على متصل التخلف – التقدم ، ومكانته على الساحة الدولية ، وإمكانية امتلاكه لنصيب وافر من التكنولوجيا . ولنضرب مثلا على ذلك بمصر : فهى تتميز بموقع استراتيجى مهم يجعلها محط أنظار العالم ، وتمتلك قناة السويس التى تعد شريانا حيويا للملاحة والتجارة الدولية ، وآثارا تهفو إليها قلوب الملايين من كل مكان . وهكذا تستطيع أن تكون أكثر انفتاحا على العالم الخارجى ، وتوثيق الروابط وأواصر التعاون مع القوى الكبرى ومراكز احتكار التكنولوجيا المتقدمة ، والحصول على نصيب وافر منها . ويتضح ذلك فيما تحققه مصر من تطوير قدراتها العسكرية ، وقدراتها الاقتصادية بالتوسع فى الاكتشافات البترولية ، وتوطين العديد من الصناعات الاستراتيجية ، والمضى بخطى ثابتة على طريق التنمية الشاملة المستدامة .
رابعا - التغير الاجتماعى والثقافى فى ضوء مفهوم "العولمة"
بدأ شيوع مصطلح "العولمة" Globalization فى بداية العقد الأخير من القرن العشرين ، فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتى وظهور نظام عالمى جديد أحادى القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون . كما واكب ذلك أيضا بعض المظاهر الدالة على وجود تقدم كبير فى تكنولوجيا الاتصال ونظم المعلومات ، من أبرزها تكنولوجيا البث الفضائى ، و «الشبكة العنكبوتية الدولية للمعلومات» (WWW) (Worldwide web) (الإنترنت) . وبدأ يتردد فى الدوائر السياسية والفكرية والإعلامية فى كثير من مناطق العالم أن هذا التقدم التكنولوجى الهائل قد بدأ يحول العالم المتسع المترامى الأطراف إلى ماأصبح يوصف بأنه " قرية كونية " Global village ، تتلاشى فيها العزلة المكانية والزمنية ، وتتفاعل فيها الثقافات بوتيرة أسرع ، كما تنشط العمليات الثقافية ويزداد معدل " التثاقف" – كما ذكرنا من قبل – سرعة وشدة
كما أخذ كثير من الباحثين والمهتمين والمتابعين لقضية العولمة ينظرون إليها كآلية من آليات الهيمنة وبسط النفوذ من جانب الولايات المتحدة على العالم ، واجتذابه نحو النمط الأمريكى فى الحياة . حتى أن بعضا منهم قد أخذ يساوى بين مفهومى "العولمة" Globalization و "الأمركة" Americanization . وهناك صور متعددة للعولمة ، من أبرزها : السياسية ، والاقتصادية ، والثقافية . وهناك اتفاق على أن الأخيرة ، أى "العولمة الثقافية" ، هى أخطرها جميعا وأوقعها تأثيرا ، حتى أن كثيرا من النقاد أخذوا يطلقون عليها مصطلح "الغزو الثقافى" ، كما أن كثيرا منهم أيضا قد بات مهموما بقضايا جديدة تفرض نفسها مثل "الهوية" Identity و "الخصوصية الثقافية" Cultural Particularity والمخاطر التى تتعرض لها الثقافات الوطنية فى مواجهة طوفان العولمة الجارف
وفى هذا السياق ، علينا أن نتذكر ماحدث فى المؤتمر الدولى الرابع حول المرأة ، الذى عقد فى بكين بالصين عام 1995م ، حيث تضمنت أجندته بنودا تتعارض مع المبادئ الأخلاقية والشرائع الدينية ، كإباحة الشذوذ الجنسى والمساواة بين الجنسين فى الميراث ، وغير ذلك من أمورعارضتها الدول الإسلامية بشدة ، وهددت بمقاطعة المؤتمر مالم يتم تعديل أجندته بحذف هذه البنود ، مما اضطر اللجان المنظمة له إلى حذفها . ولعل هذا المثال يوضح لنا أن العولمة قد لاتنجح فى تحقيق كل أهدافها الثقافية بالضرورة ، حيث تواجه بمقاومة تحول دون بلوغها ذلك . فكما أن جسم الكائن العضوى الحى به جهاز مناعة ذاتى يحميه من مخاطر الفيروسات والمؤثرات الخارجية الضارة المحيطة به ، فإنه يمكن القول أيضا بأن كثيرا من المجتمعات لديه جهاز مناعة ذاتى خاص به ، يتمثل فى آليات يدافع بها عن هويته وخصوصيته الثقافية ، كالدين والتراث
خامسا - التقدم المضطرد المتسارع فى مجال تكنولوجيا الاتصال ونظم المعلومات ؛ رؤية نقدية تقويمية
لقد بات واضحا بكل جلاء أن العالم يشهد تقدما مضطردا ومتسارعا فى السنوات الأخيرة لم يحدث له مثيل من قبل ، فى ميادين التكنولوجيا ومجالاتها المختلفة ، وخاصة الاتصال ونظم المعلومات . وأصبح الباحثون والكتّاب والإعلاميون والأدباء وقطاعات عريضة من الجماهير على وعى ودراية بمسميات ومصطلحات جديدة يعرفونها ويتعاملون معها ليل نهار . كالإنترنت ، والبث الفضائى ، ومنصات وشبكات التواصل الاجتماعى ، وبرامج الرسوم المتحركة وتحرير الصور ومقاطع الفيديو ، والإعلام التفاعلى الجديد ، والعالم الافتراضى ، والتحول الرقمى ، وعالم الريبوتات والذكاء الاصطناعى . كما أصبحت هذه كلها فرس الرهان لدى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ، و المنتديات الثقافية الأدبية والفكرية ، ودوائر البحث العلمى الأكاديمى ، ولوائح برامج الدراسات العليا ، و رسائل درجتى الماجستير والدكتوراه . وذلك كله بدافع الإحساس بمدى أهمية هذا المجال وتأثيراته على الثقافة والإنسان والمجتمع على امتداد العالم .
ومع تعدد الرؤى النقدية والتقويمية فى هذا المجال من المنظورات : الاجتماعية ، والنفسية ، والتربوية ، والدينية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والفنية ، إلخ ، فإن هناك اتفاقا عاما على أن التكنولوجيا الحديثة تزداد تقدما يوما بعد يوم ، وأنها تغير وجه الحياة ، ولها تأثيراتها على الثقافة والإنسان والمجتمع بدرجات متفاوتة فى كل مناطق العالم . وهناك تأثيرات إيجابية وأخرى سلبية ، يمكن الإشارة إلى بعضها بإيجاز فيما يلى
أ – تأثيرات إيجابية :
إتاحة الكثير من التسهيلات ووسائل الراحة اللازمة لأداء الأنشطة والمهام خلال مسيرة الحياة اليومية .
سهولة وسرعة الوصول إلى قواعد البيانات والمعلومات والحصول عليها وتداولها ، مما يدعم مهام البحث العلمى فى مختلف الميادين ويعزز من نتائجها ، ويزيد من فرص توظيفها لخدمة جهود التنمية المستدامة .
الانفتاح على العالم الخارجى ، وتبادل المعارف والمعلومات والخبرات على نطاق عالمى ، مما يساعد على تقوية الروابط وأواصر التعاون بين الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات لتحقيق الأهداف المشتركة .
متابعة مايجرى فى العالم من أحداث أولا بأول ، مما يساعدعلى زيادة وتنامى "الثقافة الجماهيرية" ( Mass-Culture ) على نطاق واسع .
رفع مستويات الطموح لدى الأفراد والجماعات ، وزيادة دافعيتهم للإنجاز سعيا لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم ، مما يحسن من خصائص العنصر البشرى كشريك أساسى فى تنمية المجتمع .
رفع مستويات الوعى لدى قطاعات وفئات السكان على أوسع نطاق حيال القضايا المتعلقة بحياتهم وبيئاتهم ومجتمعاتهم .
بث روح المغامرة فى نفوس الشباب مما يشجع الكثيرين منهم على تبنى أساليب جديدة غير تقليدية للعمل ، حتى لو كان ذلك عن طريق الهجرة الشرعية إلى الخارج .
تحسن ملموس فى أوضاع المرأة من النواحى الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والصحية ، كثمرة لسياسات تمكينها للمشاركة فى جهود التنمية .
زيادة واضحة فى درجة تحضر القرى الريفية وانتقالها تدريجيا من النمط التقليدى القديم إلى النمط المتغير الذى تتوفر به التكنولوجيا وأنماط من الأنشطة االإنتاجية الصناعية والحرفية الحديثة.
ب – تأثيرات سلبية :
زيادة التحديات والمخاطر التى تهدد الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية .
زيادة النزعة الاستهلاكية نتيجة للحملات الدعائية والترويجية التى تبثها وسائل الإعلام ليل نهار,
تغير العادات الاجتماعة وطقوس الحياة اليومية داخل الأسرة ، فيما يتعلق بالطعام ، والأشطة ، والتفاعل بين الأفراد ، وشبكة العلاقات الاجتماعية .
تنامى شعور الأفراد بالفردية والخصوصية ، حتى داخل الأسرة ، وأصبحوا كأنهم يمثلون فى داخلها جزرا منعزلة .
تنامى الشعور بالإحباط نظرا لعجز الكثيرين من الفقراء عن إشباع احتياجاتهم التى تروج لها الحملات الإعلامية الدعائية على مدار الساعة .
زيادة حدة الاستقطاب الطبقى فى المجتمع ، فالطبقة الوسطى تتآكل بمرور الوقت ، والفقراء يزدادون فقرا ، والأغنياء يزدادون غنى .
ارتفاع معدلات الجريمة ، وظهور أنماط مستحدثة منها لم تكن موجودة من قبل ، كالجرائم الإلكترونية .
تعرض النشء لكثير من المخاطر بسبب ضعف الوظيفة التربوية للأسرة ، فقد أخذت تنافسها فيها ‘ بل تنتزعها منها ، أجهزة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى والهواتف النقالة .
ارتفاع معدلات البطالة ، حيث تصبح الآلة الحديثة بديلا عن أعداد كبيرة من العمال .
زيادة معدلات الطلاق .
تهديدات ومخاطر يتعرض لها الأفراد والجماعات والمجتمعات ، نظرا للاستخدام غير الرشيد لتطبيقات التكنولوجيا الحديثة وبرامج الذكاء الاصطناعى التى لاتلتزم بالضوابط والمعايير المهنية والأخلاقية .
سادسا – رؤية استشرافية ، وتحوطات يجب الوعى بها ، وتدابير يجب اتخاذها :
وختاما ، فإن هناك تفاصيل كثيرة يمكن أن تندرج تحت هذا العنوان ، أشير بإيجاز إلى بعض ٍ منها فيما يلى :
1 – التقدم التكنولوجى مستمر ، ويحدث بوتيرة تزداد سرعتها يوما بعد يوم ، وقد تشهد الأجيال القادمة فى هذا المجال ما لانستطيع الآن تصوره أو يخطر لنا على بال .
2 – التغيرات الاجتماعية والثقافية مستمرة وواقعة لامحالة ، وتزداد وتيرة حدوثها سرعة أيضا ، تبعا لظروف العصر . عصر السرعة المذهلة ، الذى تتحكم فيه الآلة والروبوت وتطبيقات الذكاء الاصطناعى
3 – الإنسان كائن عاقل ، يدرك التحديات والمخاطر التى تهدد بقاءه ، ويسعى دائما للتصدى لها وكبح جماحها كلما استطاع إلى ذلك سبيلا .
4 - لدى الإنسان من المرونة والقدرة على التكيف مايجعله يوازن بين الأمور ، فيتعايش مع ظروف العصر ، ويعظم من آليات المحافظة على هويته وخصوصيته الثقافية ، فالشواهد الواقعية تثبت أن العولمة الثقافية بكل وسائلها وقوتها لم تنجح طوال العقود الماضية فى ابتلاع أبسط الثقافات والقضاء عليها ، لأن كلا منها لديه "جهاز مناعة" خاص به يدافع عنه ويحميه
5 – "الوعى" و "المسئولية" و "الإرادة" و "الانتماء" مفاهيم وقيم لابد أن تكون حاضرة وماثلة لدى أبناء المجتمع من مختلف الفئات وعلى جميع المستويات ، الأهلية والرسمية ، فيما يتصل بالتعامل مع التكنولوجيا وتطبيقاتها الحديثة ، وخاصة الذكاء الاصطناعى ، فكلهم راع ومسئول عن رعيته . والله ولى التوفيق
من خبراته السابقة :